كيف يكون الرثاء؟
كلما شعرت بيأس، أذهب بحثاً عن فيديو "انظروا إليها تحترق"، أذهب وكلّي ثقة بأنّي سأستعيد نفسي الواثقة بمستقبل أفضل لنا في هذه المنطقة.
هذه الثقة التي يمنحها هذا الصوت الذي تكلّم مساء يوم 14 تموز 2006، عبر الهاتف على شاشة قناة المنار، لم يمكن في حال من الأحوال، هناك إمكانية لأن يذهب رنينها من الآذان، أو في الحقيقة من الوعي. تلك الجملة أيقظت ونبّهت ملايين الناس في العالم العربي والإسلامي، وربما في العالم، ممن يفهمون القصة التي عمرها عقود مع الاحتلال الإسرائيلي، ولماذا كانت الحرب في تلك السنة أصلاً.
الجملة وحدها لم تكن كافية لأن تفعل ذاك الفعل، لولا أن الذي قالها هو السيد حسن نصرالله، الرجل الذي حفر عميقاً في وجدان معظم الناس، وفي وجدان وعقول مجموعات هنا وهناك، لقيت ضالّتها، فالتمّت على نفسها، حتى ولو لم تؤطر ضمن حزب أو تنظيم. فهذا الرجل تمكّن أو مكّنته التجربة الطويلة في النضال والمقاومة والحياة الحزبية، وربما التعليم الديني من أن يتقن فن التأثير، مع إدراك كامل، بأن هناك أشياء تولد مع الإنسان، والرجل ولدت معه أشياء كثيرة، منها "الكاريزما"، وهي ما باتوا بالتفاف ما يسمونها اليوم بـ "الطاقة" أو "الهالة"، فقدرته عالية على الجذب، على لفت الانتباه، على جعل الجميع يرهفون السمع له. وأشياء أخرى، خبرته في الخطابة، وتمكّنه من فهم المجتمع الذي يستمع إليه، فكان يعرف متى يستدرك، حين يدخل العامية اللبنانية اللطيفة على لسانه الفصيح، فصاحة الأولين، والمعاصرين.
شكل "السيد" كما يحب لبنان أن يناديه، وكما يشير إليه الخصوم أحياناً في لبنان بشيء من الجلال، سمة لمرحلة تاريخية، يمكن لنا غداً أن نتحدث عنها لأولادنا وأحفادنا، كما حدّثنا أهلنا عن جمال عبد الناصر وياسر عرفات. مثل هذه الشخصيات تأتي إلى الدنيا لتؤدي مهمة واضحة، أصحابها يؤدونها ويرحلون بخفر، من دون حتى أن ينتبهوا أنهم ما أتوا إلى الحياة إلا من أجل هذه المهمة، أو الواجب المقدّس، الذي ليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بالمقاومة، فهناك أسماء في التاريخ لم تقاتل، لكنها غيّرت في العالم.
لكن في منطقتنا، لا بد أن تكون المهمة مرتبطة بالمقاومة، بعملية مستمرة من أجل الحرية والتحرير. فحتى الشعراء الكبار في بلادنا، كبروا ربطاً بفلسطين والاحتلال الإسرائيلي، أو بمقاومة الاستعمار. ومثلهم أهل الموسيقى والرسم والنحت والفكر. هذا ديدن شرقنا، احتلال يجرّب أن يتجذر في وعينا وحياتنا، وأناس يأتون لتجذير الحقائق في المقابل، حقائق وجودنا في أرضنا ورسوخ حقنا في التاريخ والحاضر والمستقبل.
حين أفكر بالسيد أحب تجريده عن بعض الصراخ الذي يأتي على هامش هوامش خطاباته. أحب أن لا أتذكر تلك الأصوات التي للأسف لم يوجّه بمنعها عن تأويل كلامه كيف ما يظنون أنهم يخدمون القضية التي يتناولها ويتحدث عنها، حتى أوصلوا الناس إلى بناء أحلام وأوهام غريبة عجيبة، وفي بعض الأحيان، أظنه كان يفكر أنهم زاودوا وزادوها عليه. أما هو فكان الأكثر واقعية من الجميع، والأكثر حباً وفهماً وتفهّماً.
وعلى الصعيد ذاته، كانت المرحلة الأصعب هي مرحلة سورية، تلك التي قسّمت الناس بين مؤيد ومعارض، ليس للنظام في سوريا فحسب، ويا ليتها بقيت هنا، وهذا الطبيعي. لكنها مرحلة ذهبت بالناس إلى التصنيف "والاستقطاب، ومع تدخل "حزب الله" غير الصحيح في سوريا، انقسمت الأمة حوله، فلم تتمكن من استيعاب كيف لهذا الحزب الذي حرر أرضه، وخاض حرب تموز، يذهب للدفاع عن طاغية. والناس، كل الناس، ليس مطلوباً منهم أن يفهموا أو يتفهموا أسباب الحزب أو مبرراته، لأنهم لما أحبوه وعلّقوا صور السيد في بيوتهم، لم يفهموه، إنما تقاطعوا معه في المبدأ والموقف والعمل، وكانوا جميعاً يتلخصون برفع الظلم والمظلمة عن فلسطين وأهلها. للأسف، سوريا، وما حدث فيها، فجّرت ألماً في قلوب النظيفين في كل بلادنا، اسمه الطائفية، وما تبعها من كلام ومواقف، أخذت كثيرين إلى نقاشات ومواجهات، لا مكان لها، بينما المعيار الأساسي لكل شيء، موجود وقائم ومحتل، اسمه فلسطين.
مرّ الوقت، وجاء السابع من أكتوبر، وما تلاه الثامن، والتحمت الجبهات، وكانت المواجهة، وكانت الحرب. فلسطين ولبنان معاً. دخل الحزب إلى المعركة، ولا يمكن أن يكون هذا الموقف إلا بقرار السيد ومن معه. الموقف كان كبيراً للحد الذي لا يسمح لأحد أن يقف متفرجاً، وما كان لهؤلاء الناس أن يقفوا على الحياد، كانوا ربما يريدون أن يكونوا هم الطلقة الأولى. لكن غزة استبقت الحدث.
جبهة الإسناد، والمعارك، والحرب، ردّت الحزب إلى بعض مكانته في ضمير الناس، أخجلت بعضهم عن النيل منه بكلام لا يليق بمن يقدّم فلذاته في مواجهة مع إسرائيل. المواجهة هذه جبّت في وعي الناس بعض الذي كان. لكنها لا تغني عن مراجعة يقدّمها الحزب في وقت من الأوقات للناس في العالم العربي والإسلامي.
وجاء مساء 27 أيلول 2024. كانت بيروت كعادتها، تعيش يومها، تحب الحياة رغم الحرب والموت. هذه بيروت لمن يعرفها. فجأة داخل صخب بيروت، جاء الذي غيّر كل شيء، أصوات انفجارات كبيرة، لا هائلة، لا أكثر من ذلك بكثير. جعلت بيروت ترتجّ وترتجف. لحظات وظهر الدخان. قوة القصف، والأصوات، كانت تؤكد أن المستهدف هو السيد لا غيره. مع ذلك، كانت وجوه الناس في بيروت تسأل، لا أحد يريد أن يقولها. لكن الوجوه متأكدة، فمن الذي يمكن أن تقصفه إسرائيل هكذا غير السيد.
مرّ الوقت بطيئاً في المدينة، خفتت الأصوات، قلّت حركة السير، لكن الناس ظلوا في الشوارع ساهمين هائمين. الكل يريد أن يعرف مَن المستهدف. الأخبار التي تتوارد تشير إليه، لكنّ نفياً يعيد الدماء إلى وجوه الناس، وخبراً يجمّده في العروق. هكذا قضى ملايين الناس في لبنان وخارجه ليلتهم، حتى ظهر اليوم التالي، حتى قرأوا على الشاشات "حزب الله يعلن رسمياً استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله". بكت العيون في الشوارع، وكانت عيون كثيرة نازحة من الجنوب، بعد القصف الجنوني يوم 23 أيلول 2024. وبكت عيون في بلاد كثيرة، وعلى رأسها فلسطين.
عاش السيد حسن حياته التي لا يُحسد عليها. ظل في الظل رغم أنه الأكثر حضوراً على مرّ سنين طويلة. لم يكن مثل أي أحد منا، ربما كان اللقاء بينه وبين أولاده، يتطلب الكثير الكثير من الترتيبات والإجراءات، وربما لم ينعم يوماً بيوم طبيعي كالذي يعيشه أي إنسان. وربما إذا كان يخرج إلى الشوارع، يخرج متخفياً، وربما كان يساوره الخجل من صوره المنتشرة كثيراً في الضاحية، وربما حين كان يمشي بين الناس، إن كان يفعلها، كان يسمع اسمه يتردد مع جملة لطيفة، فكان يبتسم.
ولمّا يعود، ويجلس في مكانه، كان ربما يفكر بذاك الوجه المخفي، وجهه، والصور الموجودة في الشوارع، صوره، والكلمة اللطيفة بحقه، كلمتهم. كلمة الناس الذين يحبونه، وكان يتذكر ربما كلام كبار السن حين كانوا يقولون "اللي الله بحبه بحبب العباد فيه"، فيبتسم ويرضى.
لن يظهر السيد مجدداً ليلقي خطاباً أو عظة دينية، ولن ترتفع أصبعه أثناء توجيهه تهديداً لإسرائيل، لقد مات. لكنّ أمثاله يحيون، أتوا للبقاء، فيحدث في التاريخ أن هؤلاء يقولون كلمة من شدّة وقعها ووعيها، تحور إلى "انظروا إليها محرّرة".
* صحافي فلسطيني